وزارة الأوقاف : خطبة الجمعة في مساجد مصر اليوم : التطرفُ ليسَ في التدينِ فقطْ
وزارة الأوقاف : خطبة الجمعة في مساجد مصر اليوم : التطرفُ ليسَ في التدينِ فقطْ ، بتاريخ 21 جمادي الثاني 1447هـ ، الموافق 12 ديسمبر 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 12 ديسمبر 2025م بصيغة word بعنوان : التطرفُ ليسَ في التدينِ فقطْ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة.
انفراد لتحميل خطبة الجمعة القادمة 12 ديسمبر 2025م بصيغة pdf بعنوان : التطرفُ ليسَ في التدينِ فقطْ ، للدكتور أحمد رمضان.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 12 ديسمبر 2025م بعنوان : التطرفُ ليسَ في التدينِ فقطْ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
العنصر الأوّل: معنى التطرفِ وخطرُ حصرِه في التدينِ فقط
العَنْصَرُ الثَّانِي: مَوْقِفُ الإِسْلَامِ مِنَ التَّطَرُّفِ وَصُوَرُهُ الْمُعَاصِرَةِ
العَنْصَرُ الثالث: العِلَاجُ وَخُطُوَاتُ مُوَاجَهَةِ التَّطَرُّفِ وَالتَّعَصُّبِ
ولقراءة خطبة الجمعة اليوم 12 ديسمبر 2025م : التطرفُ ليسَ في التدينِ فقطْ ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
التطرفُ ليسَ في التدينِ فقطْ
21 جمادي الآخرة 1447هـ – 12 ديسمبر .2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ الَّذي أمرَ بالعدلِ والإحسانِ، ونهى عن البغيِ والعُدوانِ، وأمرَنا بالاعتصامِ بحبلِهِ المتينِ، ونهانا عن التفرقِ والخصامِ المُبينِ. أشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. وبعد:
عناصر الخطبة:
العنصر الأوّل: معنى التطرفِ وخطرُ حصرِه في التدينِ فقط
العَنْصَرُ الثَّانِي: مَوْقِفُ الإِسْلَامِ مِنَ التَّطَرُّفِ وَصُوَرُهُ الْمُعَاصِرَةِ
العَنْصَرُ الثالث: العِلَاجُ وَخُطُوَاتُ مُوَاجَهَةِ التَّطَرُّفِ وَالتَّعَصُّبِ
أيها الإخوةُ الكرامُ… حديثُنا اليومَ عن قضيةٍ طالما شغلتِ الناسَ وأفسدتْ على كثيرٍ حياتَهم، وهي التطرفُ والتعصبُ؛ ذاك الداءُ الذي لا يقتصرُ على جانبِ التدينِ فقط، بل يتعداهُ إلى جوانبَ شتّى من حياتِنا: في الرياضةِ، في الانتماءاتِ، في الآراءِ، في العاداتِ.
فما أحوجَنا اليومَ إلى أن نفهمَ أن التطرفَ ليس حكرًا على الدينِ فحسب، بل كلُّ إفراطٍ أو تفريطٍ هو صورةٌ من صورِ التطرفِ، وكلُّ تعصبٍ أعمى يطمسُ العقولَ ويثيرُ الفتنَ، هو من الجاهليةِ المذمومةِ.
العنصر الأوّل: معنى التطرفِ وخطرُ حصرِه في التدينِ فقط
عبادَ اللهِ… التطرفُ في اللغةِ مأخوذٌ من الطَّرفِ، أي الميلِ إلى أقصى الجهةِ. والمتطرفُ هو الذي يخرجُ عن حدِّ الاعتدالِ، فيتجاوزُ الوسطَ الذي هو سبيلُ الإسلامِ القويمِ. وقد جاء الشرعُ الحكيمُ ليؤكِّدَ أن دينَ الله وسطٌ لا غلوَّ فيه ولا جفاءَ، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
لكن الخطأَ الكبيرَ -أيها الأحبةُ- أن نحصرَ مفهومَ التطرفِ في التدينِ فقط، فنظنَّ أن المتدينَ المتشددَ هو وحدَه المتطرفُ! كلا والله، إنَّ التطرفَ قد يكونُ في الموقفِ السياسيِّ، وقد يكونُ في الانتماءِ القبليِّ، وقد يكونُ في التعصبِ الرياضيِّ، وقد يكونُ حتى في الرأي الشخصيِّ الذي يرفضُ صاحبهُ الحوارَ ويحتكرُ الصوابَ لنفسِه.
وقد وقع في زمنِ النبيِّ ﷺ موقفٌ يُظهرُ أن التعصبَ ليس في الدين فقط، بل في الانتماءاتِ الاجتماعيةِ أيضاً: فعن جابرٍ رضي الله عنه قال: ” كسَع رجُلٌ مِن المُهاجِرينَ رجُلًا مِن الأنصارِ فقال الأنصاريُّ: يا لَلأنصارِ وقال المُهاجريُّ: يا لَلْمُهاجِرينَ قال: فسمِع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك فقال: (ما بالُ دَعْوى الجاهليَّةِ)؟ فقالوا: يا رسولَ اللهِ رجُلٌ مِن المُهاجِرينَ كسَع رجُلًا مِن الأنصارِ فقال: (دَعُوها فإنَّها مُنتنةٌ) فقال عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولٍ: قد فعَلوها لئِنْ رجَعْنا إلى المدينةِ لَيُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ فقال عُمَرُ: دَعْني يا رسولَ اللهِ أضرِبْ عُنُقَ هذا المُنافِقِ فقال: (دَعْه لا يتحدَّثُ النَّاسُ أنَّ مُحمَّدًا يقتُلُ أصحابَه)» [صحيح البخاري، (4905)، ومسلم (2584)].
فانظروا -رحمكم اللهُ- كيف وصفَ نداءَ العصبيةِ بـ “المنتنةِ”، لأنها تُثيرُ العداوةَ وتُشعلُ الفتنَ، ولو كان في أمرٍ دنيويٍّ بسيطٍ.
ولكي ندركَ خطرَ التعصبِ، تأمّلوا هذا المثلَ من عصرِنا: قُتل العشراتُ في مباراةٍ لكرةِ القدم، وسالت الدماءُ لأجلِ شعارِ نادٍ أو رايةِ فريقٍ! أيُّ عقولٍ هذه؟ وأيُّ قلوبٍ تلك التي أعمَاها التعصبُ حتى جعلَها تُهلكُ الحرثَ والنسلَ؟
إن هذا -عبادَ اللهِ- صورةٌ من صورِ التطرفِ العكسيِّ، ليس في الدينِ، بل في اللهوِ والرياضةِ.
وقد قال الشاعرُ مصوِّرًا حالَ من غلا وتعصبَ:
وما نَحنُ إلّا كالعُصُورِ تَجَمَّعَتْ ** على قُوتِها لو تَفرَّقَتْ تَصْطادُها
أي: إن اجتماعَنا رحمةٌ وقوتُنا في اعتدالِنا، فإذا غلونا أو تفرقنا صرنا لقمةً سائغةً للأعداءِ.
عبادَ اللهِ… التطرفُ -مهما كان نوعُه- يولِّدُ الكراهيةَ والبغضاءَ، ويفسدُ صورةَ الدينِ والوطنِ معًا.
العَنْصَرُ الثَّانِي: مَوْقِفُ الإِسْلَامِ مِنَ التَّطَرُّفِ وَصُوَرُهُ الْمُعَاصِرَةِ
أيها الإخوةُ الأفاضلُ… لم يكن الإسلامُ يومًا دينًا منغلقًا، ولا منهجًا يُعنى بالمبالغاتِ والتشددِ، بل جاء رسالةً لإعمارِ الأرضِ وإصلاحِ الإنسانِ، دينًا قوامُهُ الوسطيةُ والعدلُ والرحمةُ. قال اللهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
فالوسطيةُ – كما فسرها ابن كثير (1/ 454): “وَالْوَسَطُ هَاهُنَا: الْخِيَارُ وَالْأَجْوَدُ… وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطًا فِي قَوْمِهِ، أَيْ: أَشْرَفُهُمْ نَسَبًا، وَمِنْهُ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ، وَهِيَ الْعَصْرُ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا. وَلَمَّا جَعَلَ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا، خَصَّهَا بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ وَأَقْوَمِ الْمَنَاهِجِ وَأَوْضَحِ الْمَذَاهِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78].
وقد جاء النبيُّ ﷺ في بيئةٍ تتنازعها أطرافُ التعصبِ، فأصلح ووسط وعدل. فقد قال ﷺ: «إياكم والغلوَّ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ» (رواه أحمدُ في المسندِ ج3 ص371، والنسائيُّ في السننِ ج5 ص268، صحيح). ورأى النبيَّ ﷺ رجلًا قائمًا في الشمسِ: «فسأَل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيلَ نذَر أن يقومَ ولا يقعُدَ ولا يستظِلَّ ولا يتكلَّمَ ويصومَ، قال: مُرُوهُ فليتكلَّمْ وليستظِلَّ وليقعُدْ وليُتِمَّ صومَهُ» (رواه البخاري رقم 6704).
فانظرْ كيف ردَّ النبيُّ ﷺ الغلوَّ في العبادةِ، وأمر بالعقلِ والتوازنِ، ليعلمَ الأمةَ أن التدينَ الذي يجافي الفطرةَ ليس من الدينِ في شيءٍ.
إن الإسلامَ – أيها الأحبةُ – يحاربُ التطرفَ كما يحاربُ التفريطَ، فكلٌّ منهما مهلكةٌ للفردِ والمجتمعِ. وقد بيَّن الخطابي ذلك فقال: «التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، مَحْمُودٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ فَضَائِلِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ جُزْءٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهِ، وَأَنَّ صَاحِبَهَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُوَقَّرَ وَيُعَظَّمَ، وَيُلْبِسَهُ اللهُ تَعَالَى لِبَاسَ التَّقْوَى» (حاشية مسند الإمام أحمد للسندي، ج3 ص57).
وليس التطرفُ – يا عبادَ اللهِ – مقصورًا على أبوابِ العبادةِ والتدينِ، بل قد يكون في العاداتِ والأعرافِ والفكرِ والرياضةِ والإعلامِ، وكلها صورٌ لميلِ الإنسانِ عن الحقِّ والوسطِ الذي شرعه اللهُ.
فمن تعصب لرأيه ورفض الحوارَ، فقد تطرف في الفكرِ. ومن جعل هواه قاضيًا في كل نزاعٍ فقد تطرف في السلوكِ. ومن تحزب لقبيلته أو لجهته وتعالى على الناسِ فقد تطرف في النسبِ والانتماءِ. ومن عادى الناسَ لخلافِ رأيٍ أو لونٍ أو موقفٍ فقد تطرف في الإنسانيةِ نفسها.
أيها الإخوةُ الأحبةُ… لقد ظنَّ كثيرٌ من الناسِ أنَّ التطرّفَ لا يكونُ إلا في أبوابِ الدينِ والعبادةِ، والحقيقةُ أنَّ التطرفَ قد يتسللُ إلى شتى الميادينِ في حياتِنا: في الفكرِ، في السلوكِ، في العاداتِ، في الرياضةِ، في الانتماءاتِ الضيّقةِ، حتى صار سببًا لفتنٍ عظيمةٍ، ونزاعاتٍ مهلكةٍ. ومن صور التطرف ما يلي:
1– التطرّفُ في الدينِ… غلوٌّ مرفوضٌ
لقد حذّر النبي ﷺ من الغلوِّ في الدينِ فقال: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» [رواه أحمد والنسائي، صحيح].
وفي قصّةِ الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوتِ أزواجِ النبي ﷺ يسألونَ عن عبادتِه، فلما أخبِروا تقالّوها، فقال أحدهم: أمّا أنا فأصومُ ولا أُفطر، وقال الآخر: أقومُ الليل ولا أنام، وقال الثالث: لا أتزوجُ النساء. فلما بلغ ذلك النبي ﷺ خطبَ فقال: «أَمَّا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» [متفق عليه: البخاري 5063، مسلم 1401].
2– التطرّفُ العكسيُّ… تفريطٌ وضياعٌ
كما أن الغلوَّ هلكة، فإنَّ التسيّبَ والانسلاخَ من القيمِ هلاكٌ آخرُ. كم من أقوامٍ نادوا بالحريةِ حتى جعلوها فوضى، وبالتحررِ حتى صار انحلالًا. قال المناوي: «وَالِاقْتِصَادُ فِي الْأُمُورِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ؛ أَيْ: هَذِهِ الْخِصَالُ مِنْ شَمَائِلِ أَهْلِ النُّبُوَّةِ، وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ فَضَائِلِهِمْ، فَاقْتَدُوا بِهِمْ فِيهَا، وَتَابِعُوهُمْ عَلَيْهَا”. (فيض القدير ج4/ ص145).
3– التطرّفُ القبليُّ… داءُ الجاهليةِ
أيها الأحبة… من أشدِّ صورِ التطرفِ ما كان في الجاهليةِ من العصبيةِ القبليةِ. فجاء الإسلامُ ليهدم هذه العصبيةَ، ويجعلَ رابطةَ الإيمانِ هي الأساسَ.
وقد شهد التاريخُ كيفَ أنهكت العصبيةُ دولًا عظيمةً: فدولةُ الأندلس مثلًا سقطت حين تناحرت القبائلُ العربيةُ بين قيسيّةٍ ويمنيّةٍ، حتى صار العدوُّ يستغلُّ الفرقةَ ويستولي على الحصونِ حصنًا حصنًا.
4– التعصبُ الرياضيُّ… صورةٌ عصريةٌ للتطرف
أيها الإخوة الكرام… الرياضةُ في أصلها ميدانُ متعةٍ وتعارفٍ وتنافسٍ شريفٍ، لكنّ بعضَ الشبابِ حوّلها إلى تعصبٍ أعمى، فإذا بفريقٍ يشتمُ آخر، وإذا بمبارياتٍ تتحوّلُ إلى ساحاتِ دماءٍ وصراعٍ.
لقد شهدنا في عصرنا حوادثَ داميةً في بعض الملاعب، راح ضحيتها العشراتُ من الشبابِ الأبرياء بسبب صراخٍ على كرةٍ أو هتافٍ لفريقٍ! أيُّ عقلٍ يرضى بهذا؟ وأيُّ دينٍ يباركه؟
قال الشاعر: إذا ما عُدِمتَ العقلَ في كلِّ أمرِكَ ** فكلُّ مصابٍ بعدَهُ هيّنُ
ومن لم يزنْ في الأمرِ نفسَهُ ** أضاعَ الحقوقَ وضلّ العيونُ
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: “المؤمنُ يرفقُ بالناس ولا يكونُ فظًّا غليظًا» (حلية الأولياء، 8/91).
خطرُ التطرفِ على الأوطانِ والمجتمعاتِ
أيها الإخوةُ… التطرفُ لا يهدد الفردَ وحدَه، بل يهدد الأمةَ بأسرها. الأمةُ إذا تسلّل إليها الغلوُّ أو التعصبُ أو التسيبُ، تمزقت وحدتُها، وضعف اقتصادُها، واهتز أمنُها.
ولقد حذّر النبي ﷺ من هذا الخطر العظيم فقال: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» [متفق عليه].
عباد الله… التطرفُ لا يبني حضارةً، ولا يصنعُ عزًّا، بل هو سوسةٌ تنخرُ في جسدِ الأمةِ حتى تنهار. والاعتدالُ هو سبيلُ النجاةِ. فاللهم اجعلنا من أمة الوسط، واحفظ قلوبنا من الغلوّ والجفاء، واهد شبابنا إلى سواء السبيل، واجمع كلمتنا على الحق يا رب العالمين.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحمدُ للهِ الَّذي جعلَ العدلَ أساسَ العمرانِ، والوسطيةَ نهجَ الإيمانِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
أيها الإخوةُ المؤمنونَ… لقد بيَّنا أنَّ التطرفَ قد يتسللُ إلى كلِّ شؤونِ الحياةِ، وأنه متى وجدَ أفسدَ العقولَ والقلوبَ، ومزّقَ الأوطانَ، وضيّعَ إنسانيةَ الإنسانِ. ونواصلُ الحديثَ عن العلاجِ وخطواتِ مواجهةِ هذا الداءِ الخطيرِ، لنعلمَ كيفَ نُعيدُ للأمةِ توازنَها، وللفكرِ اعتدالَه، وللقلوبِ صفاءَها.
العَنْصَرُ الثالث: العِلَاجُ وَخُطُوَاتُ مُوَاجَهَةِ التَّطَرُّفِ وَالتَّعَصُّبِ
أيها الأحبةُ في اللهِ… إنَّ التطرّفَ – وإنْ اشتدَّ خطرُه – ليس قدرًا محتومًا، بل لهُ علاجٌ إذا خلصَتِ النيّاتُ، وصحَّتِ العزائمُ، وسارَ الناسُ على هديِ الوحيِ والعقلِ. ولقد رسمَ الإسلامُ خريطةَ علاجٍ بديعةٍ لهذا الداءِ، تقومُ على العلمِ، والتربيةِ، والحوارِ، والقدوةِ، والإصلاحِ المجتمعيِّ.
أولًا: العلمُ والوعي
إنّ أوّلَ ما يُقاوَمُ به التطرّفُ هو العلمُ الصحيحُ والفهمُ المستنيرُ. قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. فالجاهلُ أسرعُ الناسِ إلى التعصّبِ الأعمى، أما العاقلُ العالمُ فيزنُ الأمورَ بميزان الشرعِ والعقلِ، فلا ينحرفُ ولا يغلو.
قال الإمامُ الغزاليُّ رحمه الله: ” فالمعرض عن العقل مكتفياً بنور القرآن، مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان.، فالعقلُ مع الشرع نورٌ على نور، والملاحظُ بالعينِ العورِ لأحدِهما على الخصوص متدلٍّ بحبلِ غرور”. الاقتصاد في الاعتقاد ص10، إحياء علوم الدين، ج1، ص112.
ثانيًا: التربيةُ على الحوارِ وقبولِ الآخر
المجتمعُ الذي تُشيعُ فيه ثقافةُ الحوارِ والاحترامِ لا يعرفُ للتطرّفِ سبيلًا. قال تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. وقد كان النبيُّ ﷺ يُحاورُ أصحابهُ، بل وأعداءَهُ، فيستمعُ ويُصغي ويُبيّن، فكان ذلك أدعى لانتشارِ الحقِّ وزوالِ الباطل.
وقال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: “إني لأكره أن أرى أحدَكم سبعًا، لا في أهلِه ولا في عملِه، فإنكم إن كنتم كذلك مللتم الناس”. مصنف ابن أبي شيبة، ج6، ص125.
ثالثًا: التواضعُ وكسرُ أنانيةِ النفس
التعصّبُ غالبًا ثمرةُ كِبرٍ واحتقارٍ للآخرين، والعلاجُ أن يتواضعَ المرءُ للهِ ولعبادِه.
قيل عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنَّه كان في سفرٍ مع أصحابِه، فقام بخدمتهم بنفسه، يخبزُ ويطبخُ ويقضي حوائجَهم، حتى قالوا: «ما رأينا مثلَه في التواضع”. سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج8، ص385.
رابعًا: القدوةُ العملية
الشبابُ ينظرونَ إلى القدواتِ أكثرَ مما يسمعونَ من الخطبِ والكلماتِ. فإذا رأوا قدواتِهم متسامحينَ، متوازنينَ، غير متعصبينَ، نشؤوا على هذا الهدي. وأعظمُ قدوةٍ لنا رسولُ الله ﷺ الذي قال اللهُ عنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
قال الشاعرُ:
وَلَسْتُ بِمُستَبْقٍ أَخًا لا تَلومُهُ ** عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ؟
فالعاقلُ لا يتعصّبُ لنفسهِ، بل يتغاضى عن الزلاتِ ويبحثُ عن المشتركات.
عباد الله… التطرّفُ داءٌ يُمزّقُ الأممَ، ويُعطّلُ الطاقاتِ، ويُشيعُ الكراهيةَ والعداوةَ، سواءٌ كان في الدينِ أو السياسةِ أو الرياضةِ أو غيرها. وعلاجُهُ بالعلمِ، وبالحوارِ، وبالتواضعِ، وبالقدوةِ، وبنشرِ روحِ الاعتدالِ التي جاء بها الإسلامُ.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
اللهم احفظ أوطانَنا، وبارك في أرزاقِنا، وانشر الأمنَ والإيمانَ في ربوعِنا.
المراجع: القرآن الكريم
كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، مسند أحمد، السنن للنسائي. مصنف ابن أبي شيبة.
تفسير ابن كثير، الزهدُ للإمامِ أحمدَ، حليةِ الأولياء أبو نعيم، مناقبُ الشافعيِّ للبيهقيِّ، حاشية مسند الإمام أحمد للسندي، فيض القدير للمناوي، الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي، إحياء علوم الدين للغزالي، سير أعلام النبلاء، الذهبي.
د. أحمد رمضان
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان
___________________________________
خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف علي صوت الدعاة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
و للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع
و للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف






